أربعة أيام, ويحل رجب طيب اردوغان, رئيس الوزراء التركي, ضيفا علي المحروسة, في زيارة هي الثانية لمصر, ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير, تلك الثورة التي كانت،
وفق تعبير وزير الخارجية محمد كامل عمرو في أنقرة يوم الجمعة الماضي, سببا رئيسيا في دفع العلاقات المصرية التركية إلي آفاق رحبة, لم تشهدها علي مدي تاريخها الطويل.
اردوغان القادم للقاهرة, وراءه ملاحظات وعلامات إستفهام, لكن هو نفسه أيضا يملك مسيرة من الانجازات حققها لبلاده, لا يمكن أن تخطئها العين, وهي ليست وليدة عشر سنوات فحسب, بل تتجاوز ذلك بعقد آخر, ولعل البسطاء في إسطنبول, يذكرون له الطفرة الحضارية التي احدثها بمدينتهم عندما كان عمدة لها قبل ثماني عشرة سنة, وفيها دشن بنية أساسية بأحيائها الشعبية الممتدة في شطريها الاوروبي والآسيوي علي السواء, بحيث نقلها من حال مختنق وعشوائي إلي آخر أكثر تخطيطا وعمرانا ورحابة, وما أحوج القاهرة العريقة أن تحذو حذو عاصمة المال والتجارة بالاناضول.
اردوغان الإسلامي الجامح قبل عشرين سنة وربما أقل, حينما صرخ في جمع من مؤيديه, مرددا لهم قول شاعر عتيد في الجنوح والتطرف: المساجد ثكناتنا, والمنارات حرابنا, والقباب قبعاتنا والمؤمنون جنودنا, هو ذاته, القائل قبل أيام عشر, أنه يسير علي درب الكبار, بدءا من مؤسس البلاد مصطفي كمال أتاتورك, مرورا بتورجوت اوزال العبقرية الاقتصادية, وعدنان مندريس الديمقراطي المحافظ, وأخيرا نجم الدين أربكان, الاب الروحي للاسلام السياسي في تركيا العلمانية, لكنه ايضا لم ينس ولعه بدولة الخلافة مشددا علي إعجابه بأجداده العظام رموز الامبراطورية العثمانية المنقضية عنوة رافضا في قرارة نفسه وصفها من قبل مغرضين, برجل أوروبا المريض.
ولأنه مفوه, يعتقد مقربين منه أنه بات يملك نسقا من التصورات والأفكار, لا يقتصر علي إصلاح الداخل ببلاده فحسب بل يمتد ليشمل ما يعاني منه جواره القريب والبعيد معا, وكما تحدث الرئيس الدكتور محمد مرسي خلال زيارته القصيرة لتركيا في المؤتمر الرابع الطارئ للعدالة, وكذا اتحاد الغرف التجارية وسط العاصمة أنقرة, من المفترض أن يوجه زعيم حزب العدالة والتنمية المتسيد الحياة السياسية, كلمة لن يخرج مضمونها عن رؤيته التي تنطلق من ضرورة تلاقي التيارات الإسلامية مع نظيرتها المدنية وبطبيعة الحال سيتجنب البوح صراحة بأن العلمانية لا تصطدم مع الإسلام حتي لا يثير حفيظة متشددين يقفون بالمرصاد لاي تزاوج يكون من شأنه صهر التراث والحداثة في بوتقة واحدة.
ولن يفوت الزعيم التركي الفرصة, فهو حتما سيعيد انتقاداته القاسية للامم المتحدة, ومجلس أمنها, الذي حمله تحديدا مسئولية المذابح التي طالت ومازالت تطول أبناء الشعب السوري علي يد قوات بشار الأسد, وكان قد بدأها في أفتتاح أعمال لجنة حقوق الإنسان بمنظمة التعاون الاسلامي, وكررها مجددا بنفس الشدة في بالي الإندونيسية يوم الخميس الفائت, فلا يمكن ان يقود المجتمع الدولي خمسة بلدان فقط, وهو موقف القاهرة نفسها الذي سبق ودعت إلي ضرورة تغيير بنية مجلس الأمن وتوسيعه كي يضمن تمثيلا عادلا ومتكافئا لدول العالم.
ومثلما اعتبر سياسيون وإعلاميون أتراك وجود اول رئيس مصري منتخب في بلادهم بمثابة علامة فارقة في حقبة سياسية يمر بهما الشرقان الادني والأوسط, وانها نقطة تحول كبيرة, هاهم يعودون ليؤكدوا المعني نفسه مع زيارة رئيس حكومتهم الكنانة, والذي سيصطحب معه وفدا رفيعا يضم نصف وزرائه, وكأنه يترجم دعوة الرئيس مرسي للأتراك إلي مزيد من الانفتاح علي بلاده خاصة في ظل هذا التآخي الرائع والروابط والأواصر الانسانية والتاريخية والجغرافية داعيا أن تكون التوءمة بين البلدين حقيقية تتجاوز الحواجز وتأشيرات الدخول.
والنخبة التركية أيضا يحدوها الآمال في بدء مسيرة تعظم ما فات, وتضيف الجديد من أجل رفاهة شعبين كبيرين, يستحقان أن يكونا في مصاف الكبار, وهما الآن يشار إليهما بالبنان كل في محيطه, لا تنافس علي زعامة أو من يقود المنطقة, بل التكامل والتعاون في كافة المجالات دون إستثناء, بيد أنه وللمرة الأولي سيتطرق مسئولي البلدين خلال مباحثاتهما إلي إحداث نقلة نوعية في مجالات البحث العلمي, فالاستثمار ليس فقط السلع الاستهلاكية أيا كانت انواعها, فقد آن الاوان أن يتجه التفكير إلي الصناعات الاستراتيجية. ومن المنتظر أن تشهد الاسابيع القليلة القادم زخما كبيرا وزيارات متبادلة وستتوج بزيارة للرئيس عبد الله جول الشهر القادم وستكون هي أيضا الثانية لمصر الثورة.