لماذا انتخب الأمريكيون باراك أوباما من جديد رغم أنه لم يحقق شيئا للاقتصاد في فترة رئاسته الأولي التي امتدت لأربع سنوات؟ لماذا أصر الناخبون من السود والهيسبانيك والأقليات بصفة عامة في المجتمع الأمريكي علي مكافأة أوباما بولاية ثانية بدلا من معاقبته؟
طابور من الناخبين الأمريكيين أثناء الاقتراع
كيف يعاد انتخاب رئيس, وولايته الأولي كانت مليئة بالأوضاع الاقتصادية المتردية, وبالتوجهات الخارجية غير المقنعة بالنسبة للناخب الأمريكي, والتي ظهرت آثارها مؤخرا في الهجوم علي القنصلية الأمريكية في بنغازي؟
الإجابة علي هذه الأسئلة تقودنا حتما إلي الحديث عن الناخب الأمريكي نفسه, الذي كان بحق البطل الأول لفيلم الانتخابات الرئاسية الهوليوودي الأخير, فهو الطرف الذي تألق وتفوق وأثبت جدارته حقا بالديمقراطية التي ينعم بها, ليس لمجرد أنه ذهب إلي لجان الاقتراع, ولكن لأنه أثبث قدرة فائقة علي تقييم رؤسائه بشكل موضوعي بعيدا عن المهاترات والافتراءات التي كالها كل طرف للآخر خلال الحملات الانتخابية.
لم يبال الناخب الأمريكي كثيرا بما قاله رومني في حملاته الانتخابية من أن الأمريكيين لن يطيقوا صبرا علي أربع سنوات أخري مع أوباما, أو بشأن مسئوليته عما حدث للاقتصاد الأمريكي في الفترة الماضية, ولا بشأن مسئوليته عن فشل واشنطن في كبح جماح إيران نوويا, ولا أيضا بشأن إخفاقات السياسة الخارجية الأمريكية في دول الربيع العربي.
لقد أيقن الناخب الأمريكي ـ الديمقراطي والجمهوري علي حد سواء ـ أن أوباما ليس هو المسئول عن أزمات الاقتصاد, وإنما هو اجتهد وحاول قدر ما يستطيع في هذا الملف طوال ولايته الأولي, وظهرت بوادر للحلول مؤخرا تتمثل في تحسن طفيف في نسبة البطالة( نسبتها الآن7.9%), بينما يعرف الجميع أن المشكلة أساسا منبعها فترة الإدارة الجمهورية الكارثية للرئيس السابق جورج دبليو بوش, ولهذا تأكد الأمريكيون من خلال قراءتهم المتعمقة للأحداث وتعرضهم بصلابة وذكاء لوسائل إعلام لا تلجأ إلي الكذب والتشهير, إن اتهامات رومني لأوباما بشأن مسئوليته عن التردي الاقتصادي هي الافتراء بعينه, فكانت النتيجة أن تعمد هذا الناخب مكافأة أوباما علي جهده وأدائه, ومعاقبة رومني علي كذبه, أو علي الأقل محاولة خداعهم!
كما جاء أداء أوباما في التعامل مع كارثة الإعصار ساندي شديد الدقة والإخلاص, بعكس ما أظهره بوش من إخفاق عند مواجهته لكارثة إعصار كاترينا عام2005, ويكفي شعور المواطن الأمريكي العادي بالاطمئنان عندما شاهد أوباما وهو يوقف حملاته الانتخابية خلال فترة ساندي ليمارس مهامه كرئيس للولايات المتحدة في مواجهة الكارثة التي صادف مجيئها قبل الانتخابات بأيام قليلة, علي خلاف الجمهوريين الذين كانوا مشغولين آنذاك بتفجيرات العراق!
ومن أفضل ما بثته شبكات التليفزيون الأمريكية خلال يوم الانتخابات الأخيرة, ما نقلته سي. إن. إن عن مواطنة أمريكية سوداء من متضرري ساندي, عندما قالت إنها فقدت منزلها وتشردت بفعل ساندي, ولم تحصل إلي الآن علي تعويضات أو علي سكن بديل, ولكنها مع ذلك ستعطي صوتها لأوباما لأنها تري أنه الأفضل!
وليس هذا فحسب, فالناخب الأمريكي أيضا يتمتع بالقدرة علي ممارسة حقه الديمقراطي في اختيار من يراه مناسبا لتولي رئاسة بلاده وفقا للتقييم الموضوعي, بصرف النظر عن انتماءاته الحزبية والعرقية والدينية.
واتضح هذا جليا من خلال عدة أدلة, ففي سؤال شديد الذكاء للغاية, وجهت كريستيان أمانبور مقدمة البرامج الأشهر في سي. إن. إن بل وربما في العالم عبارة ملتهبة إلي ضيفها السيناتور الأسبق جورج ميتشيل, فقالت له: السود رشحوا أوباما والبيض انحازوا لرومني.. هل أصبحت الانتخابات الأمريكية من الآن فصاعدا انتخابات علي أساس عرقي؟
فكان جواب ميتشيل بسيطا وصريحا ومباشرا وخاليا من التعقيد, حيث قال لها إن أكثر ما يميز المجتمع الأمريكي أنه متعدد الأعراق ومليء بالأقليات, وأنه مهما كانت تعدد أعراقه, فإنه لا يجوز لأحد أن يحجر علي اختيار أحد, فكل منا له الحق في الإدلاء بصوته للمرشح الذي يريده, وفقا للأسس التي يضعها الناخب وحده, حتي وإن كانت عرقية!!
وحتي نتائج الانتخابات تسير في الاتجاه نفسه, فالسود أدلوا بأصواتهم لصالح أوباما, دون أن يجرؤ أحد علي اتهامهم بأنهم قطيع يختارون المرشح الأسود بدون تمييز, فهذا حقهم تماما, وكذلك الهيسبانيك أصحاب الأصول اللاتينية, بينما البيض فضلوا رومني, وأيضا لم يعاتبهم أحد أو يتهمهم بالعنصرية مثلا, ولا ننسي أن جورج دبليو بوش نفسه جاء بناء علي أفكاره الدينية وليست السياسية, خاصة وأنه لم تكن لديه أي أفكار سياسية من الأساس, بل كانت كل مؤهلاته أنه الأكثر تعبيرا عن التوجه الديني الجديد ـ اليميني المحافظ ـ داخل المجتمع الأمريكي, ولكن في الوقت نفسه, لم يوبخ أحد رومني نفسه لانتمائه إلي طائفة المورمون المسيحية التي يبلغ عدد أتباعها نحو ستة ملايين أمريكي, ولا تعترف بها كل الكنائس.
كما أن أوباما لم يتمكن من تحقيق الفوز فقط بسبب حصوله علي أصوات الولايات الديمقراطية التقليدية ذات الثقل الكبير في المجمع الانتخابي الأمريكي(538 صوتا) مثل كاليفورنيا ونيويورك, ولكنه فاز في معظم الولايات المتأرجحة وعلي رأسها أوهايو وفلوريدا,( النتيجة النهائية332 لأوباما مقابل206 لرومني), بل ونجح في قهر منافسه في معقله هو شخصيا ـ في ولاية ماساتشوسيتس ـ رغم أن الأخير كان حاكما لتلك الولاية حتي وقت قريب!